مستقبل المستقبل






بقلم: د. عمرو سيد صالح



   في لحظة من لحظات القلق التاريخي التي يعيشها عالمنا العربي، يطلّ سؤالٌ عميق يتجاوز هموم اليوم وصراعات اللحظة: كيف نصنع مستقبل المستقبل؟

    لسنا هنا بصدد الحديث عن الغد القريب الذي يتشكل من قرارات آنية قريبة، ولا عن المستقبل التقليدي الذي يقترب تدريجيًا في صورة خطط خمسية أو عشرية. نحن أمام مفهوم أعمق، وأشمل، وأجرأ: التفكير في "المستقبل بعد المستقبل"، في الزمن الذي يتجاوز توقعاتنا الحالية، حيث تتداخل التحولات العلمية والاقتصادية والسياسية لتعيد صياغة الإنسان والعالم معًا.

أولًا: لماذا المستقبل لم يعد كافيًا؟

اعتادت المجتمعات أن تُخطط لغدٍ محسوب: مشاريع، بنى تحتية، تعليم، سياسات اقتصادية. لكن هذا النمط أصبح محدودًا في عصر تسارعت فيه التحولات بما يفوق قدرة النماذج التقليدية على الاستيعاب. الذكاء الاصطناعي، والهندسة الجينية، والطاقة المتجددة، والذكاء الكوني، وأمن المعلومات؛ كلها عوامل تُعيد تشكيل العالم في مدى زمني لم يعد يُقاس بالعقود، بل بالسنوات وربما الأشهر.

إن "المستقبل" الذي تصوره آباؤنا لم يعد هو المستقبل الذي نعيشه اليوم، فما بالك بما ينتظر أبناءنا وأحفادنا؟ من هنا تنشأ الحاجة للتفكير في بوصلة "مستقبل المستقبل"؛ أي في السيناريوهات الممتدة التي تضعنا في موضع المبادر لا المستجيب، وفي موقع الفاعل لا المفعول به.

ثانيًا: التحديات العربية في أفق ما بعد المستقبل

المشهد العربي يقف على تخوم تحولات حاسمة كما نري مقدماتها الآن حيث:

1. اقتصاديًا: الاعتماد على النفط والموارد التقليدية لن يستمر، والعالم يتجه نحو اقتصاد المعرفة والطاقة البديلة. هل أعددنا استراتيجياتنا لذلك التحول أم سنظل أسرى دورة أسعار النفط والغاز؟

2. اجتماعيًا: أكثر من (60%) من سكان العالم العربي تحت سن الثلاثين. هذه طاقة بشرية هائلة قد تكون قاطرة نهضة أو قنبلة موقوتة إذا غابت عنها الرؤية.

3. جيوسياسيًا: المنطقة العربية هي القلب بين الشرق والغرب، وهي محل صراع على النفوذ والممرات المائية والموارد. المستقبل هنا ليس خيارًا بل ضرورة وجودية لا بديل عنها...نكون أو لا نكون!!.هذه هي المعضلة.

ثالثًا: الذكاء الاصطناعي وصناعة الغد البعيد

الذكاء الاصطناعي ليس ترفًا تقنيًا، بل هو العمود الفقري لمستقبل العالم. ستختفي وظائف تقليدية، وستولد مهن لم نسمع عنها بعد. التعليم، والإعلام، والصحة، والنقل، وحتى التشريعات القانونية ستتأثر.

العالم العربي أمام خيارين:

1. أن يكون مجرد سوق استهلاكي لتكنولوجيا الآخرين.

2. أو أن يستثمر الآن في بناء مراكز بحثية، جامعات، وشركات ناشئة تجعل منه شريكًا في صياغة المستقبل.

من يملك الخوارزمية يملك القرار، ومن يملك البيانات يملك الإنسان، ومن يملك المعرفة يملك المستقبل.

رابعًا: من التبعية إلى الريادة

منذ عقود ونحن نراوح مكاننا بين استيراد التكنولوجيا وتصدير المواد الخام. لكن "مستقبل المستقبل" لا يرحم التابعين.

• المطلوب اليوم: هو التحول من الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن النقل إلى الابتكار، من الاندماج السلبي في العولمة إلى الريادة في تشكيلها.

• البحث العلمي هو كلمة السر: إنفاق لا يقل عن (2%) من الناتج المحلي على البحث العلمي ليس رفاهية بل شرط للبقاء.

خامسًا: ما الذي يمكن أن نقدمه للعالم؟

العالم العربي ليس فقيرًا في موارده ولا في عقوله. لدينا موقع استراتيجي، وثروة شبابية، وإرث حضاري وثقافي فريد. التحدي أن نترجم هذه المكونات إلى مشاريع مستقبلية كبرى:

• جامعة إلكترونية عربية: تعيد صياغة التعليم العالي وتكسر القيود الجغرافية (ويمكن أن تساعد بخبراتها الجامعة السعودية الإلكترونية، والمملكة العربية السعودية في إنشائها).

• بنك عربي للابتكار: يمول المشاريع البحثية وريادة الأعمال بدل الاكتفاء بالقروض الاستهلاكية (حاضنة عربية للابتكار وممكن أن تساهم دولة قطر في بنائها).

• منصات معرفية عربية: تنافس عالميًا في إنتاج المحتوى الرقمي واللغوي (ويمكن أن تساهم دولة الإمارات في إنشائها).

سادسًا: الإنسان أولًا وأخيرًا

لا قيمة لكل التكنولوجيات إن لم تكن في خدمة الإنسان. السؤال الجوهري ليس فقط: "إلى أين يذهب العالم؟"، بل: "كيف نصون الإنسان وسط هذا الإعصار؟".

• كيف نضمن أن يظل التعليم مُشكلًا للقيم قبل المهارات؟

• كيف نحافظ على الهوية العربية والإسلامية في مواجهة ذوبان الثقافات؟

• كيف نعيد صياغة العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع على أساس المشاركة والشفافية؟

خاتمة: دعوة لرحلة فكرية

إن "مستقبل المستقبل" ليس مقالًا واحدًا، بل رحلة فكرية وحوار مفتوح مع القارئ العربي، نحاول فيه معًا أن نستشرف القادم ونبني وعيًا استباقيًا.

المطلوب ليس التنبؤ بالغيب، بل صناعة سيناريوهات عقلانية تساعدنا على اتخاذ قرارات اليوم بشكل يجعلنا أكثر استعدادًا لغدٍ مختلف.

هذه ليست رفاهية فكرية، بل شرط أساسي لبقاء الأمة العربية فاعلة في عالمٍ يُعاد تشكيله كل يوم.

فإما أن نصنع مستقبل المستقبل... أو نصبح جزءًا من تاريخٍ يكتبه الآخرون.

 

اقتراح لحضرتك الدهليز للسلسلة القادمة بعد المقال الأول ده لو عجب حضرتك المقال الأول من الأصل:

1. مستقبل التعليم العربي – كيف نجهز أبناءنا لعصر لا نعرف ملامحه بالكامل.

2. مستقبل العمل والوظائف – المهن التي ستختفي وتلك التي ستولد.

3. مستقبل المدن العربية – الذكاء الاصطناعي، المدن الخضراء، وإدارة الموارد.

4. مستقبل الأمن القومي – حروب البيانات والمعلومات بدل الجيوش فقط.

5. مستقبل الإنسان – كيف تبقى القيم الإنسانية والدين والثقافة بوصلة في عالم مضطرب.


6. مستقبل الهوية العربية – إلي أين؟ من ماض عريق إلي مستقبل غامض.

تعليقات

الأكثر مشاهدة

المنوفية : انطلاق أولي فعاليات مبادرة نشر الوعي السياحي والأثري والانتماء الوطني بمدرسة المساعي الثانوية العسكرية بشبين الكوم

السفارة التركية بالقاهرة تُجسد التضامن دعم لا محدود للأسر الفلسطينية

" مخاطر المخدرات المصنعة " ندوة بآداب عين شمس

جامعة المنوفية في صدارة الفئة الفضية للجامعات المصرية في الاستبيان المصري للمشاركات الطلابية

رسالة إلى وزير الصحة

(إثراء) يطلق مبادرة الخوص لإعادة ابتكار حرفة متجذرة في تاريخ المملكة

أيهما أهم التربية أم التعليم ؟

مؤسسة زاهي حواس للآثار والتراث تنظم محاضرة حول اكتشاف بوابة مصر الشرقية بشمال سيناء

"عزب" يعلن صدور قرار مجلس الوزراء بتحويل معهد الهندسة الوراثية والتكنولوجيا الحيوية إلى كلية التكنولوجيا الحيوية